الخميس، 12 يوليو 2012

انعكاسات (1) .. طوق الياسمين





«لا أجد شيئًا واحدًا يكرهني فيك، بل كل شيء يقودني نحوك..».
هذا الصباح البغيض..
صباح يخلو من آثار شفتيه على جسدي ومن بقايا عطره فوق قميصي، وصباح ليس فيه هو.. لا أريده، وعمر ليس فيه هو.. لا أحتاج إليه في شيء!
وفي مكان ما من نفسي، يخطو الحنين بثقل ونقر خطواته المؤلم ينتشر كموجات دائرية بألف مركز.. وتوجد بوصلة مثبّتة على معصم الروح كساعة، تشير إليه طوال الوقت كـ«الشمال» وكل نبضاتي تمر بها، كيف يفعل أحدهم كل هذا.. وحده؟!
أنا لست حزينة، أنا فقط حادثت جدتي الميتة أمس وأخبرتها أنني أريدها أن تأخذني معها.. أريد أن أتحول إلى روح حتى أحصل على حرية العناية به دون أن يراني، وأن أحميه دون أن يشعر بذلك، وأن أخبئ الشيكولاتة في درج مكتبه وبين قمصانه، أريد أن أنظف غرفته التي يمنعه الكسل من تنظيفها، أريد أن أرتب مكتبته؛ سأصنف الكتب وأضعها على رفوف متوازية وسأضع على كل رف فهرسًا بأسماء الكتب التي يحتويها.
جدتي الحبيبة.. نسيت أن أخبرك شيئًا.. هذا هو شرطي الوحيد للذهاب إلى حيث أنت إن أردت أن تأخذيني.. أن تبقى روحي معه.


«يحدث للواحد من كثرة حبه أن يتحول إلى دكتاتور صغير في أشواقه، ويعمى عن التصديق بأن للآخرين كذلك قلبًا مثلنا»
أي «آخرين» لديهم قلب مثلنا؟؟
رأيت كابوسًا مفجعًا.. جرجرتني فيه امرأة بيضاء بملامح ميتة على حافة جبل وأنا مكبلة وتكاد تدفعني فأستيقظ.. وأبكي!!
أعرف كثيرين يمكن أن نطلق عليهم «آخرين» لكن كلمة «آخرين» لا تجعلهم من معتنقي الإنسانية.. الإنسانية مذهب منبوذ وأتباعه قلائل، دائمًا يترصدهم هؤلاء «الآخرون» وينتظرونهم في كل مكان، وراء الأشجار وفي الشوارع ويراقبونهم من النوافذ؛ فالمؤمنون بالإنسانية يكفر بهم «الآخرون».. ويبيحون دماء قلوبهم.. هؤلاء «الآخرون» لا يعرفون شيئًا عن المعنى الحقيقي لـ«القلوب» التي ابتلي بها أتباع مذهب الإنسانية.. ولكن.. من يهتم؟! لا أحد!!
لا أحد يفهم معنى أن تحمل قلبًا له وظائف أخرى غير ضخ الدماء، لا أحد يتخيل ذلك بشكل كامل، وأتباع مذهب الإنسانية يسيرون وحدهم فلا أحد يتحمل صدقهم أو براءتهم أو نقاءهم، وتلك هي لعنته، أن تكون وحيدًا.. درويشاً للإنسانية..!!


«عندما نكتب نتقاسم مع الناس بعض أوهامنا وهزائمنا الصغيرة».
أوهامي..!!
لا أعرف ماذا أفعل بها!
 فأوهامي/ أحلامي.. أحاول أن أعلقها على حبال غسيل قريبة من الأرض حتى يسرقها لص في يوم ما، لكن أي لص خائب سيسرق هذه الخيالات المهترئة التي لم تكن لها قيمة أبدًا.. حتى لصاحبتها!!
أما عن هزائمي.. أنا أحمل تاريخا حافلا بالهزائم، أنا لا أعرف كيف أخوض المعارك، لم يسلحني أحد، ولم أفهم معنى أن الحياة معركة، لكنني عندما بدأت أرى جثث الآمال تتساقط من نفوس أصحابها كل يوم؛ أدركت أنه لربما هي معركة، ولكنني لا أعرف كيف أختار معاركي، هناك دائمًا من يفرض علي أرضا وشرطا وسلاحا للقتال ربما لا أملكه، وأحياناً أصير في معركة مع طرف غير مرئي، أقوى مني وأوسع حيلة، ويتم الزج بي بقسوة في كل معركة، وأدرك متأخرًا أن الموسيقى والزهور والكتابة والشعر والحب ليست أسلحة ملائمة، إنما الناس يستعملون أشياء أكثر قسوة ككسر القلوب والحرمان من الحاجات والعاطفة..!!
أرى الحياة دائمًا رحلة، نسير فيها محملين بمبادئنا وخبراتنا والطريق طويل وخريطته غير واضحة، نمد أصابعنا إلى السماء ليلاً فنرسم حول النجوم أحلامًا وحكايا، ونقوم صباحا لنحاول تتبع آثارها في السحب، وننتظر سقوط المطر لنملأ راحاتنا ونشرب، ونأكل من ثمار الحب اليانعة الدانية القريبة من أيدينا المتعبة، نرتاح في ظل خمائل وننضج مع الوقت، ونقابل «آخرين» ربما تفترق طرقهم عن طريقنا فيما بعد، وربما يسيرون متوازيين في طُرُقٍ أخرى مجاورة، ونتسلق الجبال غير آبهين بقسوة الصخور ونسبح في الأنهار غير عابئين بالتماسيح فيها.. هذه هي الحياة التي أعرفها وهي لا يوجد بها معارك.. فمن هذا الذي اخترع معارك الحياة؟! عليه من الله ما يستحق!!



«ماذا فعلتَ لي؟ ما سرك؟ ماذا أكلتُ من يدك أو من جسدك أو من روحك؟
أشتهيك إذ أتركك وأخاف عليكَ من حماقاتي وارتباكاتي وأنا معك».

هو موجود في كل شيء، هو روح اللون والطعم والرائحة، يخرج من جنباتي كعطر، ويخرج اسمه من شفتي وسط الكلام فيترك مكانه على لساني حلاوة.. قالت لي اليوم صديقتي: «أنتِ مشبعة به، هل لاحظت كيف تنطقين اسمه؟؟».
قلت لها: «كيف؟؟».
قالت: «تشهقين في كل حروفه من فرط الشغف..!!».
وقبل ذلك.. منذ شهرين.. قالت:
«أبلغيه أنني صرتُ أراه فيك، شغفك به يملأ روحك حتى حوافها!! قولي له هنيئًا لك بعاشقة صادقة في زمن شحت فيه العواطف والمعجزات!!
أبلغيه أن صفاءه وغضبه وحبه واضطراباته تنعكس على صفحة عينيكِ، خبريه أنك تحبينه كل يومٍ أكثر، وأن الشوق يلمع بداخلك في كل مرة ذكرتيه فيها.
قولي له إنك تتعمدين النطق باسمه طوال الوقت حتى في مواضيع لا علاقة له بها، هذا حجم سيطرته عليكِ، هو في كل جانب من روحك وحتى أفكارك، أنت تحبينه!!».
نعم.. أحبه!
_________________________
*الاقتباسات.. من رواية طوق الياسمين - لواسيني الأعرج