الأحد، 15 أبريل 2012

حديث ذات .. 8




أكتب اليوم لأنني أحاول أن أخرج من رأسي بعض ما فيه، تزاحم الأفكار يصيبني بالصداع فهي تركض وراء بعضها مثيرة الكثير من الجلبة وتركل جنبات جمجمتي بعنف شديد، يجب أن يخف ذلك الازدحام المؤلم حتى ولو قليلًا، وربما يتسع صدري بعض الشيء، خاصةً وأنني أشعر كأن هذا العالم الكبير بسكانه وضوضائه وحرائقه انتقل إلى صدري الضيق!
أتيت اليوم إلى المكتب ولا عمل لي فيه، فقط أردت أن أبتعد عن مكان يعج بأرقام كثيرة وأناس يتحدثون عن بنود قانونية في عقد شديد التعقيد، نعم بالفعل أنا هاربة من العمل بذاك المشروع إلى هنا، لا أحد اليوم بالمكتب، أنا وحدي تماماً ومعي بعض الموسيقى، الموسيقى هي العامل الحفاز الوحيد الذي سيسهل خروج بعض الأفكار من رأسي، لم أختر روب كوستلو هذه المرة، روب كوستلو جريح القلب في الأساس وجراحه تتدفق منها الموسيقى لتشفي جروح الآخرين وأنا لا أحتاج إلى ضمادات؛ أنا بخير، لكن الأفكار ستنساب إلى الورق باحتراقات ياني فقط، نعم هذا هو وقت ياني.

عندما وصلت في الصباح، وجدت أن «كارول» مسؤولة النظافة استبدلت ملطف الجو خاصتي بالياسمين وأنا أستعمل الفانيليا، وعندما سألتها ابتسمت و قالت: "وما الفرق؟"، أجبتها: "الفرق هو أنني لا أريد الياسمين"، قالت: "لكنك طلبته منذ شهر!"، قلت: "أنا أريد الفانيليا الآن!" قالت: "حسنًا في المرة المقبلة سأطلب لكِ الفانيليا."
المكتب يمتلئ الآن بعبير الياسمين ولا حيلة لي في ذلك إلا أن أقوم بشراء عطر الفانيليا اليوم، كنت أستعمل الخزامى الحزينة منذ فترة بعيدة، لكنني أحببت الفانيليا لأنها مليئة بالفرح، مبهجة وشهية وأنثوية، لا تستعمل في حداد ولا تليق أن توضع في أكاليل على المقابر، لكن المشكلة أن رائحة الفانيليا المنبعثة من ملابسي ذابت واندثرت وسط زخم الياسمين!!
طلبت شايًا أخضر منذ دقائق، فدخل المضيف حاملاً إياه في كوبي الأبيض، وضعه على مكتبي وانصرف، وعندما هممت بالارتشاف منه وجدته حلوًا، مثل هذه الأشياء الصغيرة تضايقني، وتغضبني جدًا كأن ينسى أحد ويضيف السكر إلى قهوتي وأنا أحبها مُرة ولا أعترف بالمحليات إلا إذا هزمتني المرارة، إن الذين يضيفون المحليات والسكر إلى شرابهم يرفضون تذوق الطعم الحقيقي لما يشربون وأنا لست كذلك، أنا أحاول أن أتحمل الطعم الحقيقي لكل شيء، مر أو حاد أو حلو أو لاذع، لأنني أظن أن ذلك سيعينني بطريقة ما على تقبل طعم مواقف الحياة، لا أعرف لماذا أظن ذلك بالرغم من أنه لا يبدو حقيقيًا..!
كان لي موعد مع إحدى صديقاتي اليوم لكنني ألغيته، لا أريد أن يقوم معي أحد بطقس الأمومة، صديقتي هذه تعاملني كأنني طفلة صغيرة سقطت أرضًا فجرحت ركبتها واتسخت ثيابها وأنا لست كذلك، انا امرأة في الثلاثينات الآن لن يجدي معي ما كانت تقوم به، لا لشيء إلا لأنني أرغب في أن أقوم وحدي ولا أريد أن ينتزعني أحد من فوق الأرض، أريد أن أفعل كل شيء وحدي، سأبكي وسأعالج ركبتي وأبدل فستاني ثم أعود إلى اللعب في خضم هذه الحياة مهما استغرق ذلك من وقت..!!

في يدي الآن رواية طوق الياسمين لـ«واسيني الأعرج»، لا أعرف ما قصة الياسمين معي اليوم، حتى أمي الحبيبة في الصباح كانت تضع على غير العادة عطر الياسمين الأخير الذي اشتريته لها، و بالأمس عندما سرت بممشى على البحر لفتني رائحة الياسمين فانتبهت إلى أن الأحواض الخضراء المحيطة بي كلها مزهرة بالياسمينات..!
كنت قد حصلت بالأمس على اسطوانة موسيقية جديدة لـ«محمد منير»، وشغلتها في السيارة، الموسيقى رائعة ولكنني لم أحتمل كلمات الأغاني، فبعد الأغنية الثامنة أخذت الاسطوانة من المشغل وألقيتها خارج سيارتي من النافذة، أنا لا أريد أن أسمع هذا الكلام لأنه جميل جدًا لم أستطع أن أتحمله فتخلصت منه قبل أن تدمع عيناي، لذلك لجأت إلى ياني، حيث لا كلام.. لا شيء.. فقط إحساس ونغم.
أحياناً أفعل ذلك، بل أنني في مرة أعجبني ديوان شعر عامي قرأته كله وعندما بدأت في البكاء قمت بإحراقه،  وتلك الموسيقى صارت تنحت في روحي والكلمات مؤلمة كالوشم، وأنا مشوهة بالفعل، فكأن كلمات أغنيات «محمد منير» اتحدت مع الياسمينات في هذا العالم في مؤامرة ضدي مستغلين ضعفي وألمي وانعدام رغبتي في المواجهة هذه الأيام.

مزاجي مرتبك، واليوم طويل ولا يريد أن ينتهي، أريد أن أترك العمل وأذهب إلى البيت لأغسل نفسي من الياسمين الذي علق عطره بملابسي، أريد أن أتسلل إلى فراشي و أن أسدل الستائر الداكنة على النوافذ كلها، ثم أستسلم إلى النوم لأغمض عينيّ ولا أرى أحدًا، الأرق يمنعني من الراحة و يجهدني كثيرًا ويملأ وجهي بالخيبات والكوابيس والظنون والارتباكات ويجعل مشاعري سهلة القراءة بالنظر المجرد إلى ملامحي، وعقلي يعمل بلا هوادة منجبًا تلك الأفكار المشاغبة التي حاولت أن أسكب بعضها هنا، عل الصداع يرحل حتى ولو جزئيًا.




الجمعة، 6 أبريل 2012

أَلْــــــــــوانْـــــــ : عن الأمنيات البيضاء



استكملت حكايتها قائلة:
«ثم لم تشترِ لي أمي الفستان الأبيض الذي حدثتك عنه، على الرغم من أن لدي حذاء أبيض يناسبه تماماً وله كعب عال، ولدي حقيبة بيضاء مغطاة بالريش وعصابة شعرٍ بيضاء رائعة عليها خمس وردات صغيرة».
ثم رفعت ذراعيها السمراوين الصغيرتين في الهواء لتدور حول نفسها دورة كاملة، راقبت خصلات شعرها الأسود الناعم تتطاير وعيناها مغمضتان، ثم سمعتها تقول:
«هل تعتقدين أن اللون الأبيض لا يناسبني يا عمتي؟».
ابتسمت وأنا ألتقط كوب القهوة الكرتوني، وقلت لها:
«كل الألوان تناسبك، الأبيض والوردي والأحمر.. فأنتِ أجمل الصغيرات على الإطلاق..».
اتجهت نحو النافذة الزجاجية الكبيرة، وقفت على أطراف أصابعها وتشبثت بقضيب معدني لامع لتراقب السيارات الملونة، ثم أخذت تعد السيارات البيضاء بصوت مرتفع.
شيروثي أكبر مشاكلها الفستان الأبيض، والانتقال إلى مدرسة جديدة لا تعرف فيها أحدًا، وتشكو أن شقيقتها الصغرى تشد شعرها الطويل واستولت على دميتها المفضلة، وغضبت عندما فقدت كتابها الأبيض عندما انتقلت مع أسرتها إلى منزلٍ جديد، كتابها الذي كان يتحدث عن أميرة تهبها إحدى الجنيات ثلاثة صناديق.

الأوراق البيضاء ملقاة على الطاولة بينما الصغيرة جالسة على الأرض أمام الجدار الزجاجي، عبثاً أحاول أن أكتب بضع كلمات عن لونٍ أحبه، أو عن لونٍ يذكرني بشيء أحبه، مسكينة هذه الأوراق التي تحمل وزر الكتابة، ضعيفة ولا حيلة لها حين تبدأ الأقلام في اغتصابها إلا أن تستكين لتحمل سفاحاً بعض الأسرار أو الحقائق أو الأكاذيب، وأنا أشارك في ذلك لأنني أحاول أن أجد شيئًا أكتبه ليناسب حدث الكتابة عن الألوان، فأنا أقمت الحدث واستضفته ولم أكتب شيئًا إلى الآن لأن الكتابة صارت صعبة؛ حين أبحث عن كلمات أغسلها في قلبي أولاً لتكون بالطهر المناسب للمرور بعينيه، قبل أن يرفع قلمه الأحمر ليبدأ في تصحيح أخطائي بنصف ابتسامة مغرية، ولا أظن أن موهبتي المتواضعة في الكتابة تسعفني دائماً في هذا الخصوص، ولكنني أحاول!

وقفت شيروثي أمامي ثم استأذنت في أن تسحب ورقة بيضاء وأن تستعير هذا القلم الرصاص الذي أحاول أن أكتب به، أعطيتها ما طلبت ثم جلست.. راقبتها ترسم مزهرية وزهورًا، ثم خبرتني أنها ستقوم بتلوين هذه الرسمة البيضاء بالألوان حين تعود إلى المنزل، أو أنها ستبحث عن حبات قطن ملونة بين أدوات زينة والدتها لتلصقها بدلاً من التلوين، أحب هذه الصغيرة لأنها مبدعة حقًا!!

الآن تأكدت أنني يجب أن أكتب عن اللون الأبيض، ربما أكتب عن قميصه الأبيض الذي ينعكس لونه على بشرته فيصير جبينه وضاءً أكثر وتلمع عيناه أكثر، أو ربما أكتب عن قنينة عطر الفانيليا البيضاء التي تقيم قطراتها على صدري بشكل دائم، أو عن عم أحمد البستاني - رحمه الله - الذي كان يعتني بحديقة الواجهة لإحدى الشركات التي عملت بها وكان يهديني ياسمينة عربية بيضاء كل يوم في موسم الربيع قائلاً :«صباح الياسمين يا وردة..».

وأذكر أن إحدى صديقاتي المقربات تمنت لي مرة أن أكتب قصة بيضاء، وعندما سافرت صديقتي إلى إيطاليا منذ أربع سنوات خبرتني أنها ألقت لأجلي في نبع التريفي ثلاث عملات معدنية، ثم أسهبت في الشرح وقالت إن التقاليد القديمة الإيطالية تقول إن لكل عملة معدنية معنى، فالعملة الأولى من أجل أن يرجع صاحب الأمنية إلى إيطاليا، والعملة الثانية من أجل أن يقع الشخص في الحب، والعملة الثالثة من أجل أن يرتبط بعد الحب إلى الأبد بالزواج. خبرتني أنها فعلت ذلك لأجلي بعد أن أخبرها أحد العجائز الإيطاليين بإمكانية أن تلقي بعملات معدنية لتتحقق أمنياتها لشخص آخر.
صديقتي الحلوة تؤمن بمثل هذه الأشياء، وتحب اللون الأبيض وتعتقد أن القلوب في الأصل بيضاء لكن الدم هو الذي جعلها حمراء، وأن الحب أبيض لأن لا لون يتصف بالنقاء والبراءة مثل الأبيض، وتؤمن بأشياء كثيرة كقوة الألوان.. وتعتقد أن اللون الأبيض أكثر الألوان قوة وتأثيرًا وقوته مثل الأسود تمامًا..

أما أنا فلم أنتبه إلى اللون الأبيض إلا اليوم، عندما قامت تلك الجميلة الجالسة على الأرض بالحديث عن فستان أبيض أعجبها ولم تشتره، وعندما لاحظت أن جزءًا يخفق في صدري وقتما تذكرت صديقتي ذات الأمنيات البيضاء وقصتي التي ربما ستكون بيضاء كهذا الضوء الداخلي الذي تشعه روحي إن لامست روح صاحب القميص الأبيض!

على الهامش :

ملهمة الكلمات بالأعلى هي هذه الطفلة الجميلة : Shruthi Raja