هذه الرواية قرأت عنها في كل مكان ، و التقيت معجبين كثر بها ، و لأن كل الناس كانت تتحدث بمبالغة عن كميات الألم المدفونة بين سطورها خفت أن أقرأها ، إلى أن ناولني أحدهم نسخته في تبرع محمود ، و قادني الفضول إلى قراءتها.
في البداية ، خفت أن تشكل كميات الألم التي سمعت عنها تلك دبابيس صغيرة ، تغرس نفسها في ذاكرتي القديمة ، و خفت أن تحيي بي أشياءً إعتقدتها ماتت ، و صدقت ذلك بكل ما أوتيت من إيمان ، فخفت ان أكفر بنفسي ، إذ أن كثيرين خبروني أنها أوقظت فيهم أشباحاً لمشاعر قديمة ، لعشاق قابلوهم في طريق ضللوا وجهتهم ، و أنا لا أختلف عن غيري أبدًا ، إذ أنني أيضًا قابلت من حول طريقي و مساري و ضللني و رميت أحياناً فوق جسر مقطوع النهايتين سقط في هاوية رمادية مظلمة .
الرواية تتحدث في بدايتها عن كاتب شاب ، يؤلف رواية و يحاول من خلال الكتابة الخروج من وعكته العاطفية المؤلمة التي ألمت به أدواء الدنيا ، و استمرت بداخله تصنع حربًا ضروسًا ما بين ذكرياته و نصائح أصدقائه ، حتى أنه غادر بلده إعتقادًا منه أنه بذلك يترك البلد الذي دفن فيه ماضيه ، و سافر إلى فانكوفر حيث البرد و الوحدة ليلتقي بديار العراقي و بالسيدة تينغل العجوز القعيدة ، و لكن السفر و الاغتراب لن يقوما سوى بتعذيبه زيادة ، فتتضاعف غربته و تتزايد آلامه بشكل موحش و مفجع ، و ما هربه إلا ليعود إلى موطنه في النهاية ، ليَصُفَ كلماته المدمعة في رواية .
أجمل ما في هذه الرواية صورها و كناياتها الأدبية ، و بدا الأسلوب الأدبي جيداً في العديد من الفقرات ربما لأن محمد حسن علوان شاعر في المقام الأول ، و هذا هو الشيء الوحيد الذي شجعني لإكمالها ، حيث أن خط الدراما بها ضعيفٌ للغاية ، و به الكثير من المشاهد التي أقحمت عمداً – أو هكذا شعرت أثناء قراءتها – ربما بغرض التطويل و الإسهاب الذي كان مملاً في أغلب الوقت أو ربما لإضفاء بعض الحميمية لقصة حبه الصاخبة الكثيرة الألوان و الغرائب .
بطل الرواية ضعيفٌ جدًا ، إلى درجة يصعب تصديقها من الضعف العاطفي إذا قيست على الذكور بفطرتهم الطبيعية التي جبلوا عليها ، فهو منغمس و غارق بالكامل في مشاعره و ذكرياته و لا يعرف كيف يخرج من ماضيه ، يعيش ماضيه فيصعب عليه حاضره ، و يمضي به الوقت و هو مسجون تماماً في عاطفته لا يخرج منها ، و ضايقني ذلك بشكل شخصي ، إذ أنني كنت أود أن أراه ينفض آثار المرض و الضعف عن جسده ، ليقف بقوة أمام نفسه فيتسامح مع تاريخه ، عل هذه الرواية تلهم أحدًا في موقف مشابه أو تخفف عن أحد معاناة ما يلقى من غدر الحبيب إذا علم أن الوقت سيمضي و أن الأمور تتحسن ، إذ أن البطل لم يحاول و لا مرة أن يواجه ذاته بضعفه ، و لم يحاول أن يغير من موقفه ، بل أن مشاعره التهمته بالكامل ، وخيل إلي أن أمله في أن تكتمل أو تستمر قصته قد تحول إلى وحشٍ أجهز عليه و حوله إلى "زومبي" ، و يميل إلى قدرية الحب ، لكن الاستسلام للألم ليس قدرًا ، و التوقف عن الحياة ليس قدرًا ، بل أننا نستعذب التنكيل بأنفسنا أحياناً لأننا نستسهل ذلك عن كي الجروح و المواجهة .
ديار عراقي للغاية ، و هو شخص محوري في الرواية لأنه صديق البطل في فانكوفر و كان من الممكن أن يشكل ديارٌ دوراً أكبر من كونه رمز عراقي فقط ، و قد أقحم مؤلف الرواية عدة حقائق تاريخية عن العراق بشكل صارم في صفحات ، حتى أنني ظننتني خرجت من خط الرواية إلى كتاب تاريخ مكتوب بطريقة لا أحبها ، خاصةً طريقة كتابة هذه الحقائق التاريخية لا تشبه الطريقة الأدبية الرومانسية جدًا التي صيغت بها عبارات الرواية .
بطلة الرواية عابثة جميلة ، تصف قلوب الرجال و تسير عليها بخيلاء و طفولة في امتزاج ، و قد برع في رسم شخصيتها بالكامل فهي مستقلة جريئة يراقب البطل علاقاتها الخفية بآخرين بالمراسلة و الهاتف و يتألم دون أن يسأل حتى لا يجرح ما بينهما ، ترضخ في تناقض للعادات و التقاليد فتتزوج برجل آخر ، و تنقلب قوتها إلى ضعف غريب ، في مجتمع شرقي مغلق نقل الحب إلى لائحة الخطايا و الفضائح دون ذنب ، و أجبر الحب على أن يسير متنكرًا أو هاربًا أو خائفًا لئلا يقتله أحد ، فصار الحب – نصاً حسب الرواية - منبوذًا قبل أن يُفهم ، مرفوضًا قبل أن يتكلم ، و منفيًا خارج حدود الوطن حتى قبل أن يفكر في التمرد .. !!
في النهاية ، الرواية يؤخذ عليها الإسهاب و التطويل و إقحام الكثير من الفقرات التي بدت مقحمة بالفعل في جسد الرواية ، و لا أنصح شخصاً مجروحاً أو مذبوحاً – بمعنى أدق - بسكين الحب حديثاً أن يقرأها ، لأنها ستزيده حزناً فوق حزن خاصةً و أن البطل يدور في دائرة ألمه بيأس ، و غالبية مواقف القصة هي مواقف عشاق عشناها كلها أو عشنا البعض منها ، تشبهنا جميعاً ، و شعرت أن الكاتب يلكزني بعصاه في بعض الفقرات ، أو يلكز قلبي تحديداً ، كما في قوله :
" أنا الذي ظننتُ أن لاشيء في الدنيا أقرب لك مني ، كما هو لاشيء في الدنيا أقرب لي منك ، اكتشفتُ أخيرًا ، أن الكلمات التي يقولها عاشقان في لحظة عناق ، و الوعود التي يقطعانها في غمرة بكاء ، لا يجب أن تؤخذَ بجدية ..!! "
المفاجأة أنني أيضاً ، ظننت مثله ، و اكتشفت نفس الاكتشاف ..!!