الجمعة، 27 يونيو 2008

الجانب الآخر من النهر




على ضفاف النهر تجلس بوجهها المتسخ ، ملابسها القديمة ، تمدد ساقيها الجريحتين في الماء ، تحاول أن تفعل شيئاً آخر غير أن النظر في صفحة الماء إلى النصف الأيسر المحترق المشوه من جسدها الضعيف ، الصبية في القرية يقفون وراء النخلة الكبيرة حفاة ، يتهامسون فيما بينهم : "إنها جنية الماء التي تعيش في الكوخ"، يراقبونها في قلق حتى لا تراهم ، فقد شاع منذ زمن أن من نظرت إليه احترق و تشوه و صار مثلها ، تنحر الشمس عبر الغيمات القليلة نحو الغروب ، حينها علمت انه يجب عليها أن تغادر إلى كوخها قبل أن تعود مراكب الصيد ، حتى لا يرميها الصيادون بالحجارة فهي نذير شؤم لليوم التالي ان لمحوها على النهر .



تجري بألم ، قدماها تؤلماها فالشوك في كل القرية منثور على الأرض حتى لا تمر ببيوت أهل القرية ، فلا أحد يرغب في أن يتلقى من جنية الماء نظرة واحدة ، تعود إلى الكوخ وحدها ، تنكمش في زاويته فتضم ساقيها إلى صدرها ، ثم تبدأ في التمتمة بلغة غريبة ، قيل أنها قد جنت ، حين رحل حبيبها منذ زمن هناك ، إلى البلاد التي لا تراها الشمس ، قيل أنه طار على جناح طائر من الطيور الخرافية التي رآها عدد قليل من اهل القرية لكنهم ماتوا بعد ذلك ،لأن ذاك الطائر الخرافي يلقي اللعنات على من يراه ، و كل من رؤوه لا يبقون على قيد الحياة ، فهو سر الآلهة الذي يأتي بالقرابين ، ثم وهبت نفسها للنهر ، فصارت جنيته .



تحاول أن تستحضر طيف ذاك الفارس ، قيل لها أن السحر سيستطيع اعادته الى الوطن ، لازالت تتمتم ، في كل ليلة منذ عشر سنوات ، تجلس و تتخذ وضعاً جنينياً ، لأن ذاك هو وضع التعويذة الذي لا تتم إلا به ، و قد حفظت تلك التعويذة عن عرافة في الجهة الأخرى من النهر ، أخذت منها قلادتها الذهبية و خلخالها السميك مقابل تلك التعويذة .



حاولت في مرة أن تحرق قلبها من شدة شوقها له ، فأخذت قبساً من النار ، قربته إلى صدرها ، و قامت بحرق النصف الأيسر منه ، فتعيش بلا قلب يعذبها به ، و بلا رغبة تؤذي خلاياها المحترقة شوقاً و ألماً و وجعاً و غربة ، قالت إنها الليلة ستذهب إلى العرافة في الضفة الأخرى على طوفها القديم ، الذي صنعته قبل أن يموت أبوها حين عملت معه في صناعة الأطواف للراغبين في عبور النهر إلى الضفة الأخرى ، لقد فكرت في أن الطريقة الوحيدة لملاقاة حبيبها ، هي أن تأخذ تعويذة أخرى لاستحضار الطائر الخرافي الكبير، ذاك الطائر الذي وصفه القدامى بأنه أسد ضخم مجنح له ذنب طويل كأذناب الخيل ، مخالبه كبيرة كل مخلب يشبه أسنان الفيل ، و أن صوته قد يهدم منازل القرية كلها .

تنتظر المساء ، تأخذ طوفها القديم ، و تذهب إلى النهر ، تجلس على الطوف ، و تبحر بيديها الصغيرتين إلى الجهة الأخرى بكل الجهد ، تحرك يديها في الماء البارد ، تتثلج أطرافها ، فتعجز عن الإحساس بهما ، و تحرك ذراعيها في سرعة ، تصل إلى الجهة الأخرى ، تبحث عن بيت العرافة ، فلا تجده ، تجول في القرية الغريبة ، الليل يمنع الرؤية عنها إلا الضوء النافذ من مصابيح الزيت عبر بعض النوافذ ، يمر رجل عجوز من جوارها ، فتتشح بالظلام و تتوجه إليه ، حتى لا يراها في الضوء ، فتسأله عن بيت العرافة ، فيقول لها أن واعظاً أحرق العرافة و بيتها منذ سنين ، و ما عاد السحر مسموحاً به في قريتهم ، يتكئ العجوز على عصاه و يسير في وهن .

تبكي في مرارة ، تلقي بجسدها الضعيف على الأرض ، لقد ضاع الأمل الأخير في أن تراه ، لم تحصل على التعويذة التي تستحضر الطائر ، و ما عادت تعويذتها القديمة تجدي ، تلملم نفسها ، تقوم إلى النهر ، تبدأ في تفكيك الأحبال عن طوفها ، فيجب أن تذهب إليه هي ، إن لم تستطع احضاره ، تقف على طوفها الضعيف المفكك ، تلامس الأخشاب الماء فتتباعد ، و يسحبها ماء النهر إلى منتصفه ، لازالت الأخشاب تتباعد واحدة تلو الأخرى إلى أن تغوص في النهر متمتمة بكلمات التعويذة لربما يأتي لإنقاذها ، لكنه لم يأتِ ، و ابتلعت ماء النهر في رئتيها .

بعد الفجر ، يلقي الصيادون شباكهم ، ينتظرون ، يسحبون الشباك ، إنها هي ، جنية النهر ميتة غارقة ، أخذوها إلى القرية ، حددوا هذا اليوم عيداً ، لقد ماتت المشؤومة التي تسببت في فقر القرية و قلة حصيلة الصيد ، صلبوها و صار الصبية يرمونها بالحجارة ، لقد اختفى النحس ، فاليوم ستنجب النساء العاقرات ، و سيصير الفقير غنياً ، و سيقومون بتنظيف القرية من الأشواك ، فجنية النهر المشوهة لن تعود .