يرتبط صوت ماجدة الرومي عندي دائمًا بالحب، وأعترف أنني حاولتُ مرارًا أن أجد في نفسي ما تثيره لدي ماجدة الرومي من أحاسيس عند أم كلثوم، فاتبعت كل وصفات محبي أم كلثوم، بداية من إعداد فنجان القهوة التركي والجلوس في هدوء في إضاءة خافتة والإنصات لصوتها، إلى القيادة مسافة طويلة وقت الفجر مع الاستماع لأغنية لأم كلثوم، ولم يفلح ذلك، فلم أستطع أن أحب القهوة التركي.. وفي المرة الوحيدة التي استمعت فيها إليها في السيارة كدت أصطدم بحاجز خرساني في الخامسة والنصف صباحًا عندما كنت في طريقي إلى أحد مواقع العمل، وقد كنت قاب قوسين أو أدنى من النوم أثناء القيادة.
تأكدت حينها أن أم كلثوم ليست هي الصوت الذي يحرك الشغف بداخلي، وأنا بالمناسبة أحترم كثيرًا محبيها ومستمعيها، وأحببت عددًا من قصائدها المغناة حين قرأتها دون غناء، وتمنيت - خفية في نفسي - أن تغني ماجدة الرومي قصيدة «هذه ليلتي» لجورج جرداق، أو أن تصدح أنغام بقصيدة «أغدًا ألقاك».
وبالمناسبة؛ أنا فاشلة في التقاط نغمات جمال سلامة على البيانو، الدكتور جمال سلامة ملحنٌ ثقيل، ويصعب عليّ أن أعزف بشكل سماعي أحيانًا، وتمنيتُ أن أصير أكثر احترافًا حتى أستطيع أن ألتقط النغمات بشكل أفضل، لكن الوقت لا يسع دائمًا للاستماع والتجربة والتعلم.
من المدهش والمثير للاستغراب أنني أجد وقتًا للكتابة أثناء العمل، فإذا فرغت من المهام المسندة إلي أخذت الدفتر والقلم وجلستُ أكتب وأكتب، وهذا لا يعني أنني سأستطيع أن أنشر كل ما كتبته، لأن هناك فاصلاً بين ما يجب أن يراه الناس وما يجب أن نحتفظ به لأنفسنا لنواجهها به لاحقًا في وقتٍ ما، وهذا لا علاقة له بأن هناك أشياء كتبتها ولم أقرأها لأنني لم أرغب في مواجهة نفسي بها ولكنني في انتظار هذا الـ«يوم» الـ«ما» الذي سأواجه نفسي فيه بما كتبت!
نعم أنا أكتب الآن وقت العمل، بينما الآخرون مشغولون بأشياء كثيرة، الطابعات تعمل في دأب وأصوات ألواح المفاتيح تتواتر في انتظام، وهواتف لا تتوقف عن الرنين، وأصوات مختلطة ما بين اللغات العربية والإنجليزية والهندية، لكن لا أحد يعلم أنني قادرة على تجاوز هذا كله والهروب منه إلى سلامي النفسي الشخصي الذي أجده في الكتابة، وأنا أستمع إلى ماجدة الرومي في رائعتها «مع جريدة» وهي تقول:
«ذوب في الفنجان قطعتين
وفي دمي ذوب وردتين
بعثرني، لملمني.. ذوبني..».
كلمات نزار المغناة تأسرني جدًا، فلم يكتب أحد يتحدث بمشاعر امرأة بهذه البراعة أبدًا، وبالمناسبة فإن قلة قليلة نادرة من الرجال يفهمون مشاعر المرأة ويستطيعون التعبير عنها والتعامل معها في الشعر والأدب، وبخاصة في هذا الزمن الذي صار فيه كل كلام مقفى شعرًا وكل عشرة سطور قصة، بل إنني أتساءل إن كانت دور النشر تقرأ فعلاً ما تقوم بنشره داخل الكتب.
اشتريت كتابًا ضخمًا لروائي كبير - هكذا يقولون - بناء على نصيحة أحد المثقفين، الذي عرفت فيما بعد أنه لا مثقف ولا يعرف عن الثقافة حاجة، ووصلت إلى ثلاثين في المائة من الكتاب، وأنا أقرأه بصعوبة لأنني دفعت فيه مالاً - أيوه هو استخسار - وكان الأولى بي أن أدعو بهذه الجنيهات المسكينة إحدى صديقاتي إلى فطور فاخر في فندق خمسة نجوم أو أن أشتري كتابَ شعر رومي قديم مترجم، أو أي شيء آخر.
محتويات ذاك الكتاب كان من الممكن أن يحكيها لي أي «سايس عربيات» في وسط البلد، أو أي فرّان عيش بلدي مسن يعمل في وسط البلد، مقابل كوباية شاي بنعناع أو سحلب بالمكسرات على قهوة في وسط البلد أيضًا، وما كان الأمر يحتاج إلى كتاب ودار نشر وغلاف ثقيل.
آن للحكي الآن أن ينتهي، كان يجب علي أن أتهيأ لاجتماع ما لمناقشة أمرٍ ما لن يحله ذلك الاجتماع الـ«ما»، وباعتبار أنه قد تم إلغاء ذلك الاجتماع فإنني سأحضر لنفسي نصف كوب من القهوة الذهبية السريعة، وسأنظر من الحائط الزجاجي الكبير بمكتبي إلى العالم الخارجي بنظرة فلسفية حقيرة فارغة لا أهمية لها، ثم أعود إلى عملي.