منذ خمسة وعشرين عاما، كنت في الصف الثاني الابتدائي، أذكر تماما الحصة الثالثة حين كنت أهم بقراءة درس اللغة الإنجليزية بالفصل وأتت مدرسة أخرى اصطحبتني إلى وكيلة المدرسة وأخبرتني بأن أبي في انتظاري وأنه يجب علي أن آخذ حقيبتي الوردية وكتبي كلها، وأتذكر الحقيبة الوردية التي بها جيوب كثيرة من القماش كالفتيات الكبيرات، أنا في السابعة، غاضبة لأنني لن أتمكن من إكمال اليوم الدراسي لسبب لا أعرفه، ولن أحصل على نجمة على دفتري لأنني لم أقرأ الدرس حين حان دوري؛ ولكنني ذهبت إلى مكتب الوكيلة بحقيبتي.
أمسك أبي بيدي وسرت معه عبر ممرات المدرسة وحتى رياض الأطفال؛ حيث فصل أختي الصغرى، استأذن أبي وأخذها من فصلها ثم ركبنا معه في سيارته الـ«شيفروليه» النبيذية الكبيرة، ونحن في الطريق أخبرنا أن أمي بالمستشفى، وأنها ستلد اليوم وسيصبح لنا أخٌ أو أختٌ صغيرة، ولذلك قام باصطحابنا إلى المنزل لأننا لن نجد أحدًا باستقبالنا حين نعود من المدرسة، وعليه؛ فإننا سنبقى عند جارتنا «أمل» إلى أن يعود هو من العمل لأن أمي ستبيت بالمستشفى.
وبعد قليل اتصل بنا المستشفى وأخبر أبي الذي تلقى المكالمة أنه رزق بطفل صحيح جميل، فابتهجتُ وأختي وأردت أن يكون اسمه «لؤي»، لكنهم اختاروا أن يكون اسمه «أحمد»، وكان هذا هو اسم صديقي المفضل وقتها – الذي صار طبيبًا الآن – فوافقت وأعجبني ذلك.
في المساء، لم يسمحوا لنا بزيارة أمي، لأن الزيارة محظورة على الأطفال دون الثانية عشرة، فجلست مع أختي باستقبال المستشفى ونحن نسأل بعضنا عن شكل «النونو» الجديد، كل ما نعرفه هو أنه صغير للغاية وأطرافه دقيقة ورائحته ستكون جميلة وسيكون مسموحًا لنا بحمله واللعب معه.
بعد ثلاثة أيام قضيناها بين شقتنا، مع أبي، وشقة الخالة «أمل»، عدتُ من المدرسة فوجدت أمي في فراشها مع مولودها الجديد، سلمتُ على أمي ونظرتُ إلى هذا المخلوق الناعم الصغير ذي الشعر الأسود والبشرة الحمراء، كان له كفان مغلقتان وأطراف صغيرة للغاية وعينان واسعتان، وفم صغير وأنف رائع صغير، قبلت جبينه وخفتُ أن أحمله، لأنه صغير جدًا وطري جدًا..!
كان لهذا الطفل الصغير وهو في الثالثة من عمره سيارة حمراء ببدالات داخلية، وكان يسميها «بومبو»، وكنا نلصق له عليها نجومًا ذهبية، ونراه يلعب بها وهو يرتدي جلبابا مخططًا صغيرًا، وكان عنده بنطلون قصير من الجينز وقميص أصفر.. كان يضحك كثيرًا..!!
عندما صار في الخامسة والتحق بالمدرسة، كان يحب اللون الأصفر؛ لأنه اللون الوحيد في علبة ألوانه الذي يستغرق انتهاء الحبر منه وقتًا طويلاً، وكان عنده قفازات شتوية صفراء..!
في مراهقته، كان مشجعًا ضاريًا وشرسًا للنادي الأهلي، لدرجة أن غرفته بها علم كبير للأهلي، ومزدحمة بالمجلات الرياضية، وفي نفس الوقت يشتري مجلة «ماجد» ويبقيها في غرفته، وإلى الآن يرفض التخلص من المجلات الكثيرة التي يخزنها في الرف الأخير من خزانته.
في كل مرة أهديته شيئًا احتفظ بالغلاف والعلبة في أحد أدراجه، عاشق للعطور، يفضل «إيف سان لوران»، يبقي زجاجاتها في غرفته أيضًا في أحد رفوف خزانته، ولديه علم لمصر من الحجم الكبير جدًا في درجٍ ما..!!
كنت أساعده في تنسيق رغباته في دخول الجامعة عندما أنهى دراسته الثانوية، وكنا نضحك كثيرًا لأننا ما عدنا نجد كليات نملأ بها الأربعين رغبة، لكننا ملأناها كلها معًا، وقدمناها والتحق بكلية الهندسة، وسار على خطاي فاختار التشييد والبناء كفرع تخصص، وتخرج في الكلية فصار مهندسًا، تخصص في إدارة المشاريع؛ كما فعلت، ومنذ شهور قليلة ارتدى خاتم خطبة فضيًا في يده اليمنى، وكلما رأيت صوره في حفل خطبته وهو مكتمل الأناقة، بالبدلة السوداء وربطة العنق والقميص، بجوار خطيبته الجميلة، أضحك كثيرًا؛ لأنني أتذكر بنطلونه القصير وقفازاته الصفراء ومعاركه المدرسية وحذاءه المضيء وأغنيات محمد منير وعمرو دياب التي تنبعث من حاسوبه أو غرفته طوال الوقت.
هذا الرضيع الذي صار طفلاً ثم مراهقًا ثم رجلاً، يتم غدًا عامه الخامس والعشرين، ربع قرن وأنا أراقبه بعين الأم أحيانًا والأخت أحيانًا، والصديقة أيضًا، فعيد ميلاد سعيد.. يا أحمد!!