منذ فترة طويلة وهي هادئة تماماً، لا تتحدث مع أحد تقريبًا..
ومنذ بدأ رمضان رزقها الله قدرًا كبيرًا من السكينة، كأن قلبها صار حرًا يسكن طبقات السماء العلى.
"إنه الزهد"
أجاب أحد المساعدين عن سؤال عنها بينما هو يشير إليها بعينيه وهي تعبر إحدى الممرات حاملة ملف أسود كبير وثقيل، فإذا بالسائل يعلق: "تبدو حزينة.." فيجيب المساعد: "لا ليست حزينة؛ لقد صارت مختلفة فقط.. كأن روحها تبدلت.."
وفي اللحظة ذاتها سقطت ورقة من الملف الثقيل فانحنت لتأخذها من فوق الأرض ثم دستها في مقدمة الملف وعاودت السير مرة أخرى حتى وصلت إلى مكتبها، غلّقت الباب ثم انحنت إلى درج صغير في خزانة الملفات ومدت يدها إلى جيبها فأخرجت مفتاحاً، فتحت الدرج الصغير ونظرت إلى العلب الملونة الصغيرة بابتسامة واسعة؛ ثم أخذت تعد العلب بأصابعها كطفلة تخاف أن تسهو عن العد حتى اطمأنت إلى صحة العدد، فأغلقت الدرج وأعادت المفتاح إلى جيبها.
لازالت العاشرة صباحًا..!!
تهمس لنفسها بأن الوقت سيمر بسرعة فقط ان انشغلت بأعمالها اليومية العادية وأن الوقت سيمر بالفعل لأنه لا يفعل شيئًا آخر منذ قديم الزمن، وظيفته هي أن يمر.. فقط!
انهمكت في مراجعة العقود الجديدة لبعض للمقاولين وأعادت ضبط بعض الأسعار ثم أذن الظهر فابتسمت، لقد بقي من اليوم ساعتان أو اقل..
الثانية إلا عشر دقائق..
نزلت ببصرها عن ساعة الحائط ثم تناولت كيساً بلاستيكيًا أبيض من تحت المكتب، ثم قامت إلى الدرج السري الصغير، ورصت فيه العلب الصغيرة واحدة تلو الأخرى وهي تعدها مرة واحدة أخيرة.
وفي الطريق، تبادرت إلى ذهنها أفكار كثيرة، لكل فكرة منها لون وصوت وشكل، كانت الأفكار تردد نفسها بداخلها؛ نفس أفكار الوحدة التي كانت تخيفها سابقًا حين كانت تخبرها أن قلبها تقلص، وأنها جافة من الداخل.. وأن ما لا تستخدمه من نفسها في طريقه إلى الضمور والموت، وأن بداخل رحمها خلايا صغيرة تموت طوال الوقت وكان من الممكن أن تصير أطفالًا، لكن ذلك لم يحدث، تذكر بخوف المساومات التي يفرضها الآخرون عليها، على شرفها.. ويكون الرهان على الضعف وعلى جوعها العاطفي في وحدتها هو سيد الأمر كله، وهي تتمسك أكثر بالوحدة.. لأنه لا سبيل آخر للأمان، وفي كل مرة ظنت أنه هناك طريقٌ للحب، كان ذلك ليس حقيقيًا، فتسرب العمر منها ولم تحصل على شيء سوى الوحدة الآمنة والكتب والموسيقى وبعض الدعوات والأمنيات القلبية من فقراء لا يكادون يعرفونها، وبعض الابتسامات الطفولية من شفاه صغيرة لأطفال ليس لديها مثلهم.
كان «الخَبْز» هو الطريقة الوحيدة التي تتغلب بها على خوفها وشوقها ورغبتها وغضبها، وليلة العيد عذرٌ مناسبٌ للخبز،لأن رائحة المخبوزات المنزلية تعالج غيرتها وإحباطها وتعبها وإرهاقها.
فتحت كيس الدقيق ثم أخذت تملأ الكوب الكبير وتعده، تذكرت المرة الأولى التي خبزت فيها «الفطير المشلتت» وأرادت أن تبتسم لكنها لم تستطع، كأن شفتيها مطبقتان لا ترغبان في الابتسام، ثم يصل إلى أذنيها صوت فيروز عبر مذياع مهمل في ركن المطبخ بينما تقلب العجين في خلاطة كهربائية كبيرة، وانتظرت أن ينتفض قلبها لكنه لم يفعل.
ظلت تراجع مشاعرها وهي تضغط بأصابعها على العجين وتسأل نفسها، ما الذي تشعر به؟ فتجيب بنفسها أنها لا تعرف، لا توجد مشاعر محددة لكنها ليست حزينة وليست قلقة.. ولا شيء هناك لتنتظره ولا حدث لتترقبه، هي فقط تطرد أفكارها السيئة بالخبز.
بدأت في تشكيل الكعكات الصغيرة، ثم صارت تنقشها بنقشات صغيرة متشابهة بـ«مُنقاش»، وانهمكت في ذلك تماماً حتى وضعت الكعكات في الفرن ووقت تراقبها تنضج من الزجاج الأمامي، ووقفت تستنشق رائحة الكعك في هدوء.
عندما أخرجت الكعكات من الفرن، قفز «هو» إلى ذهنها مرة أخرى، لازال يعبر ذهنها على فترات متباعدة، تذكرت تلك الشامة فوق شفتيه وابتسمت، جزءٌ منها أراده أن يتذوق هذه الكعكات الطازجة، لكن ذلك مستحيل.
تركت الكعكات تبرد ثم ذهبت إلى غرفتها، أخرجت ثلاثة أكياس كبيرة، كيسٌ فيه طائرات وسيارات وعرائس صغيرة، وآخر فيه قطع من الشوكولاتة بأغلفة ملونة، وثالث فيه سكاكر ومكسرات مقشرة، تناولت العلب الصغيرة، وصارت تنقش على كل علبة حرفًا بالإجليزية، مر «هو» بذهنها مرة أخرى هناك طفلٌ جديدٌ انتقل أهله إلى بناية مجاورة يحمل نفس الاسم ويحب الطائرات، فتحت الصندوق ووضعت فيه الطائرة البلاستيكية الصغيرة وقطعتين من الشوكولاتة وحفنة من السكاكر والمكسرات، وكررت ذلك مع كل صندوق صغير، فصار لديها أربعة عشرة صندوقًا صغيرًا عليها حروف أجنبية مختلفة.
في المساء، جلست تحضر أطباق الكعك البلاستيكية المزخرفة للجيران، وأخذت ترش السكر فوقها في هدوء، وقامت بعد صلاة العشاء فارتدت عباءتها المخططة وحجابها المزركش الأنيق وذهبت توزع على بيوت الجيران أطباق الكعك الصغيرة، تمنت أن تمنح الآخرين بعض الفرح، بعض الشوق الذي كافحته بخبز الكعك، بعض الحب الذي نزل من أصابعها وهي ترش السكر، وكانت تدعو الصغار في كل بيت إلى حفلة صغيرة بساحة البناية بالغد بعد صلاة العشاء.. ليلة العيد.
____________________________
هذه التدوينة عيدية مهداة إلى كل الرائعات والوحيدات والجميلات والدافئات
إلى كل الفتيات اللاتي تقمن برش الحب مع السكر على كعكات العيد
بارك الله أعيادكن.. وأيامكن.. ورزقكن سعادة وحبًا وأمانًا من حيث لا تحتسبن
:)
عيد سعيد؛
شيماء علي