أجلت الكتابة إليك في هذه السلسلة مراراً لأنني كنت مشغولة بالعلاج والشفاء والتعافي الذي سيستمر وقتًا أطول، لكنني الآن بخير إلى درجة تمكنني من مزاولة حياتي بشكل طبيعي حتى وإن لم يكن تامًا، لكن الأمور أسهل الآن عن ما كانت عليه منذ ستة شهور مثلاً.
منذ أخذ مني الطبيب الصندوق بدأت مرحلة جديدة في العلاج، صار الطبيب يستعمل طرقًا مختلفة، ومنها العلاج بالتنويم الإيحائي الذي كلفني الكثير أيضًا من الطاقة والوقت والمال، تم فيه فك الارتباط العاطفي لي بعدة أشياء وأماكن وتواريخ تخصك.
واستعدت الصندوق منذ شهرٍ تقريبًا بعد عدد من الجلسات العلاجية، وعندما خرجت من العيادة أخذت منه زجاجة عطري الثمين وقلم الذاكرة ثم ألقيت محتوياته في سلة مهملات كبيرة على ناصية الطريق، لأنه لا حاجة لي بذكريات منك، أنا لا أريدها ولا أحتاجها في شيء، لقد دفعت واقترضت فوق ما أملك للتخلص منها، ففيم الاحتفاظ بأشياء لا قيمة لها، وسأستطيع أن أحتفظ باكسسوارات الشعر ودبابيس الزينة ومستحضرات البشرة في نفس الصندوق.. فالصندوق أهم من الذكريات الآن.
عندما عدتُ إلى المنزل فتحت قلم الذاكرة لأقرأ رسالتك الأخيرة، قرأتها مراراً لكن رأيي في محتوياتها لم يتغير، صفحة ونصف من العبث المحض الخالص، كلمات متراصة فقط، تشبه وصية ميت.. مع اقتباس لجان جاك روسو، كنوع من الفلسفة المقيتة.
المؤسف في هذه السلسلة، أنني أكتب الآن لأن الذين يقرأون طلبوا أن يعرفوا ما حدث فيها، ولا أكتب لأنني أريد الكتابة هذه المرة، وإنما أكتب لأغلق هذه السلسلة لأعود إلى تحليل الكتب وأحاديث الذات والخواطر القصيرة.
ألم أتخيل يومًا أنني سأكتب لك إلا لأغازلك، لم أتخيل أنني سأكتب لك إلا بالحب والرغبة وحرائق الشوق التي كانت تشتعل في صدري، أما الآن وقد انطفأت كل الحرائق ولم يتبق سوى الكثير من الرماد؛ فلا أجد خيارًا لغلق هذه القصة إلا الكتابة مثلما بدأت تماماً، ويعلم الله أن كتابة هذه السطور الآن ثقيلة على صدري كالهم، ليس من فرط الحب الذي كان يسكنه، ولكن من فرط الندم على قبولك منذ البداية بداخله لأنك لم تكن أهلاً لذلك.
قيل لي أني يجب أن أتعلم شيئًا من هذه القصة، لأن كل هذه التجارب تكون فيها حكمة مخفية يجب على الإنسان أن يتعلم منها وأن يحفظ الدرس ليفهم حياته ونفسه بشكل أفضل، لكنني أعرف أنني ما كنت أحتاج إلى درس إضافي من هذا النوع، لم أكن أحتاج إلى وجع وألم وعلاج وظلم ثم تعطيل بلا داعي، لم أكن أحتاج إلى ضربة في منتصف صدري، لم أكن أحتاج إلى كل ذلك، أقسم بالله أنني كنت في غنى عن الأمر كله، ولو أنني أعرف نهايته ما كنت بدأته.
انتبهت الآن إلى الخطأ الذي ارتكتبه، لقد خالفت مبدأ من مبادئ حياتي معك، وهو أنني منحتك ثلاثة فرص، مع أنني لم أمنح احد فرصة ثانية في حياتي إلا مرة واحدة وكانت معك المرة الأولى التي أمنح فيها ثلاثة فرص لاستمرار علاقة كان يجب أن أعرف أنها ستفشل منذ البداية لكنني عميت بك وبنفسي عن الواقع.. وهذا خطأ يخصني وحدي لا ذنب لك فيه.
أود ان أخبرك بشيء هام، هو أنه لا حق لك في الغضب من المجتمع الذي لولاك ولولا من هم مثلك لما صار أمثالي يعانون فيه، لأننا لن ننجو بصدقنا مع أكاذيبكم، ولن ننجو بطهارتنا مع لؤمكم، ولن ننجو ببراءتنا مع خداعكم ولن ننجو بإخلاصنا مع غدركم، ولن ننجو بإنسانيتنا منكم، أنت وكل من هم على شاكلتك على اختلاف أنواعكم تملأون من هم مثلي خيبة وألمًا ويأسًا، وتملأون الدنيا.. وهنا قلب المأساة..!
أنا لست نادمة لأنني أحببتك، فالحب خلق وكرم ودليل على صحة النفس ونقائها وأنا لست غاضبة منك ولست نادمة على صلواتي التي أرسلتها إلى السماء في أكثر من مئة ليلة أطلب من الله أن يعيدك إلي وأسأله أن يغفر لي أي ذنب منعك به عني، لكنني نادمة على قبولي لك ونادمة على كل جهد بذلته من أجل إنجاح علاقة فاشلة كعلاقتنا تلك، ونادمة على كل الوقت الذي ضيعته في الحفاظ على مزاجك وتحمل أطوارك المختلفة المتقلبة التي أرهقتني كثيرًا دون شكوى، لكنني لم أندم على إخلاصي الشديد في كل ما فعلت لأن هذا جزء من كوني «أنا»..!
لم أتخيل أنني سأضعك في ميزان الخسارة أبدًا، لكن هذا ما يحدث الآن وهذا هو الواقع، لقد مررت بحياتي لتضعني في فوضى وألم ووجع وأغرقني حبك الكاذب كطوفان جرف كل شيء وتركني فقيرة وضعيفة ومنهكة ومريضة وكان من الأفضل ألا أعرفك أبدًا.
وهنا سينتهي الأمر كله عندي، وسنغلق هذه السلسلة أيضًا،.. ولأنك تحب جان جاك روسو.. أذكرك بهذه المقولة..
"حين أرى الظلم في هذا العالم أسلي نفسي دوما بالتفكير في أن هناك جهنم تنتظر هولاء الظالمين"
وأنا أفعل ذلك كل يوم..!!
إنتهى.
شيماء