الجمعة، 15 مارس 2013

حَـديثُ ذات.. 17




كنت أود أن أحمل معي في حقائبي شيئًا مختلفًا عن الخذلان الذي أعود به من الوطن في كل مرة، لكن ما باليد حيلة..!!

وطني العزيز يلفظني خارجه ويصر على أن يبعدني عنه، ومن أجل ذلك سأحاول باجتهاد شديد ألا أعود، وسأقضي إجازاتي في مكانٍ آخر، مكانٍ لا تحمل شوارعه أية ذكرى من أي نوع، فقط أماكن جديدة، ليس بها رائحة جسد أحد، وليس بها آثار خطوات أحد، ولا أية أوهام تهزأ بي بعد رحيلها عني، سأحاول أن أكتشف عالمًا جديدًا وأشخاص آخرين.

كل الاتجاهات تشير نحو الرحيل بعيدًا، في كل مرة زرتُ فيها بلدي تركتُ فيها شيئًا عمدًا لأعود إليها بسرعة-إحدى صديقاتي الآسيويات أخبرتني بذلك- لكنني هذه المرة لم أترك ورائي أي شيء، لقد لملمتُ أغراضي كلها في الحقائب ولم أبقِ حتى زجاجة العطر التي أبقيها دائمًا على طاولة الزينة في غرفتي، لقد أخذتُ كل شيء، ولكن بقيت كسرات من نفسي تبعثرت في طرقاتها ولم أعرف كيف أحصل عليها مرة أخرى، لم أجدها..وفقدتُ مساحة كبيرة من روحي في الظلام الدامس ولم أستطع أن أحدد مكانها لأنني ما عدتُ أرى شيئًا كأنني عميتُ كليًا.

أشعر بحزن شديد وحيرة، لأنني لا أعرف أين سأذهب، ولا أعرف متى سينتهي الترحال، ولا أعرف ما هي وجهتي القادمة، لا أعرف أين أسير وليست معي أية خريطة، ولكن لدي قلبًا يؤمن بأن الله لن يضيع طريقه، ويؤمن بأن الله يعلم أنه لم يحمل سوى الخير وحسن النوايا طول الوقت، وخالق السموات يعرف ذلك.

قالت لي أمي أن أصبر على الأذى؛ لكنني عندما سألتها عن مدى الصبر لم تستطع الإجابة، وقالت لي إن القلوب التي تحمل الخير لا تمرض، فلماذا أشكو دائمًا من ألم مستمر في صدري، ولماذا يضع الناس الحجارة فوق قلبي ويمضون؟! لماذا يا أمي؟؟ لماذا؟!
لماذا يصنعون شواهد قبور قبيحة ثم يثبتونها في داخلي ويذهبون؟؟ لماذا يا أمي؟؟ فتجيبني من وسط الدمع بأن الصبر سيحل كل ذلك..!!
أمي تتحدث كأنني أملك أكثر من الصبر، لكنني لا أملك سواه في الأصل، فقط الصبر وحقائب كثيرة محملة بأكياس الخذلان التي تقفز دونما إرادتي إلى الحقائب في كل سفر، وبضعة مشاهد واضحة في عمق ذاكرتي أحلم بها كلما حاولت نسيانها..!!
أنا يا أمي أصبر دائمًا، أصبر على الأذى والتعب والغدر والكذب وكل الأشياء، أصبر كثيرًا.. وأدفع ثمن الألم وحدي، والفواتير ثقيلة والعمر لا يرحم والوقت يمضي والناس يتوحشون وكل يومٍ يصيرون أبشع، وإن زدتِ في إحسانك زادت قسوتهم عليكِ، إن تمسكتِ استضعفوكِ، وإن أخلصتِ أهانوكِ..!!

وأحاول أن أستعمل الكتابة للتداوي وصرتُ أشعر أنها لا تجدي نفعًا..!!

حاولت في الأسبوع الماضي أن أقوم بتجميع الكتاب الإليكتروني المؤجل دائمًا، لكنني لا أريد أن أنهيه، لا أريد أن أصنع كتبًا، لا أريد أن أفعل شيئًا، لا أريد لأنني في كل مرة جلست أقرأ ما كتبته أتخيل أثمان الآلام التي دفعتها في الكلمات، كل ما كتبته كان مدفوع الثمن، دفعت ثمنه من عمري ودمي وأعصابي وقلبي أيضًا، كل الأشياء مدفوعة الثمن.. كل الألم اشتريته.. اشتريته وحدي..!!

منذ أكثر من عامٍ سألني شخصٌ ما هذا السؤال: « لماذا أنتِ حزينة ومتشائمة؟» وأحسبه يعرف الإجابة كاملة الآن.. أكثر من غيره..!!