الثلاثاء، 29 يوليو 2008

علبـــة زرقـــــاء




قامت من سجدتها ، سلمت و ختمت صلاتها ، رفعت يديها بالدعاء لدقائق ثم مسحت وجهها بكفيها ، تخلع ثوب الصلاة ، تبدأ في لملمة خصلات شعرها السوداء المبعثرة بشريط أبيض ، تنظر في ندم إلى المرآة لأنها قصته منذ سنتين و نصف و لازال قصيراً ، الضوء الخافت المتسلل من مصباحها الصغير ينعكس على بشرتها القمحية فيضيء نصف وجهها المستدير في المرآة .

تمشي بخطوات هادئة كسولة إلى مكتبها الصغير حيث تكتب مذكراتها ، هذا المكتب تسكن أدراجه كل الأسرار ، كل الهدايا القديمة ، الذكريات و قبور أصحابها ، كلما غادروها دفنتهم في الورق ، صار لديها الكثير من القصص لتحكي ، و لكنها دائماً صامتة ، لم تفضل الكلام على الكتابة يوماً ، دائماً يسكنها هاجس بأن المكتب قد يتكلم ، أو ربما ينطق القلم الأسود الأنيق بما ضمت الدفاتر ، تقف أمام كرسيها و تجلس ، تمتد يدها إلى المفتاح المعلق بسلسلة فضية في عنقها ، تخلعه منها برفق ، تدخل المفتاح إلى قفل درج المكتب الأخير ، تمد يدها إلى علبة مستطيلة زرقاء ، تفتح العلبة ، تحصر محتوياتها ، حزمة سوداء لأوراق وردية من دفترها القديم ، قلادة تحمل الحرف الأول من اسمها بالانجليزية ، سوار فضي ، ثلاثة قصائد ، قلم أحمر ، قلم أزرق ، وردة حمراء ذابلة و قرنفلة بيضاء ميتة ، بحثت عن وشاحها الأبيض المطرز لم تجده ، تذكرت أنها اهدت الدموع لشخص آخر ، نعم .. لقد فعلت .

تعتدل في جلستها ، تنظر بجوارها فتنقذ كوب القهوة من السقوط على الورقات التي احتفظت بها سراً فتفك الحزمة السوداء ، تتذكر و كأنها نست ذلك أو حاولت أن تنساه ، ترى لون السماء من النافذة يتغير ، بدأت الشمس في إعلان وجودها بندائها الأبيض الذي يحيل لون السماوات البالغة الظلمة إلى لون أزرق خفيف ،تكاد السماوات تفتح أجفانها ، فتسدل الستائر الثقيلة في محاولة منها لتحاشي ضوء النهار ، تتكوم على فراشها ، تنظر إلى الرزنامة المعلقة على الجدار المقابل ، لم تنس ذاك التاريخ أبداً ، كل مواسم الحزن واحدة ، مورقة و حارة و جافة و ميتة ، ذابت الفصول في ذلك التاريخ ، و لبس الجنون كل الأشياء حتى قميصها الأسود ذي الورود الحمراء ، و حذائها ، و حجابها ، و دفترها ، هذا التاريخ هو الذي اكتشفت فيه أن العالم له ألوان أخرى ، و أن الكاذبين صاروا يجولون في الشوارع دون أقفاص و زنازين .
كانت تقول لنفسها بأنه يجب عليها أن تضيء شمعة احتفالاً بالموت ، من الذي حرم الاحتفال بالموت و الانتقال إلى حياة اخرى تكون فيها ميتاً من الداخل و لكنك تتنفس و تأكل و تخرج و يراك الآخرون ، تباً لهم و لقوانينهم التي يضعونها من أبراجهم العالية ، و تباً لكل الأنانيين ، لماذا لا يجوز أن نحاكم الذين يعبثون بنا من الداخل ، و يغيرون شفرات الدخول و الخروج ، فحتى نحن لا نصير نعرفنا !!

يسقط بصرها على أول ورقة في الحزمة ، فتقرأ :
"أحبكِ مرتين .. "
تعيد القراءة ..
" أحبكِ .. مرتين .. "
بداية رسالة نصية قصيرة ، وصلت على جوالها منذ سنتين و شهرين ، همست في هدوء مع ابتسامة ساخرة " كاذب " تلتقط الورقة بيدها اليمنى و تمسك كوب القهوة بيدها الأخرى ، لو أحبها حقاً ، لاختلفت النهاية ، يشبه فارس على حصان خشبي و يمسك بيد مقطوعة سيف من ورق ، ثم يتهمها بانها اقتحمت أحلامه ، هكذا قال ، مضحك و كاذب و مثير للشفقة ، لمَ صنع لها العيد ؟؟ ما هذا العالم الغريب الذي يصنع لك أحدهم العيد فيه ، ثم يأخذ هدايا العيد منك و يرحل فيخلق لك غربة فوق غربة !!

ليلة ذاك التاريخ ، سقطت أرضاً أثناء صلاة الليل ، ضاق صدرها ، تحشرجت أنفاسها و اختلط الأنين بالدمع ، بلغ دعاؤها عنان السماء ، يقل الهواء ينسحب من رئتيها ، يطل عليها وجه أبيها المنزعج ، ثم فتحت بصرها على ضوء أبيض في مكان أبيض على سرير أبيض ، في ذراعها إبرة مؤلمة معلقة بشيء لا تراه ، بجوراها امراة تبتسم ، ترى الجدران تقترب منها ، الغرفة تضيق ، السقف ينطبق على بصرها ، فشعرت بعجز الحركة ، و أشواك تجتاز جسدها مروراً به ، من أصابع أقدامها و حتى عينيها .

قال لها أنه سيصنع منها امراة تشبه النساء في الأساطير القديمة ، سيلف ليلها بالحرير ، و سيقطر العطر على جسدها ، سيعطيها بيتاً كبيراً وعدها بزراعة النخيل في باحته ، سينسج لها قصيدة ربيعية ، و ستضيء فيروز الهمسات و الكلمات و الأمنيات ، سيتقاسم معها كوب قهوتها ، سيقضيان ليلة على جبل ليجعلها سيدة العالم الأولى ، سيأخذها إلى حيث لا أحد ليبث فيها الحياة ، سينقش على خطوط كفيها أيامها الباقية ، ستنصهر فيه و لن تجد نفسها ، سيعطيها وظيفة أخرى ، سيعلمها لغة أجمل ، صدقت ، قنعت ، آمنت ، اتكأت أحلامها على كتفيه ، تكونت لديها عقيدته ، كان نبياً بعث من أجلها ، فوجدت نفسها أضحوكة مذبوحة تعبث بها الوحدة ملقاة على سرير في مشفى .

تغمض عينيها في ألم ، لازال الوجع ينبض في روحها ، تسقط دمعتين هربا ًمن دموعها الساكنة ، تتحسس خديها لتلحق بهما ، لكنهما تسبقانها إلى الأوراق ، ينفتح باب غرفتها ، تدخل أمها ، لماذا لم تطرق باب الغرفة ، تناديها : " أمي .. " لا ترد عليها و يبدو انها لم تسمعها أصلاً ، أمها في عباءة سوداء ، و شقيقتها ، تبكيان ، تقتربان من فراشها ، لا يرونها ، تراهم .. تصرخ " ما بكم ".. تمتد يد شقيقتها إلى ورقة في العلبة الزرقاء ، تلمح على الورقة اسماً و تاريخاً و عنواناً .. تلك ورقتها الأخيرة ، شهادة وفاتها في ذاك التاريخ .